الأحد 4/11/2007 : في عنق البئر

تهوي في البئر، لا تصل الى القاع ولا تستطيع معاودة الصعود.

الحياد.

فقدان الإحساس بالبداية والنهاية.

موقع للفتور، للبعد من الضوء ومن تراب يمكن أن تحفر فيه نفقاً.

الحياد رجل معلق في بئر، برهان على وجود ساكن.

موقع سلبي؟ ولكن، ماذا يفعل اللبناني غير المحايد؟ يصب حيويته في خطأ هنا أو خطأ هناك؟

المحايد اللبناني شبه ميت في الصراعات والحروب، أياً كان المنتصر وأياً كان المهزوم. لكنه في مراحل السلام هو الأكثر حركة وإنتاجاً والأبعد نظراً والأقدر على تكوين حداثة.

أهل الحداثة اللبنانية اليوم في موقف الحياد، في عنق البئر.

الاثنين: 5/11/2007 : بحر وجبل

هذا وطني يتصارعون عليه فأتركه الى أي مكان آخر هادئ، لأنه وطني الذي لا يهدأ. وقالت السيدة وطنك هو الأجمل، تقصد الطبيعة، وأقصد ما هو داخل الذات وعلاقات الأهل.

هذا وطني يتنقل بين سلطة وأخرى، ولأنني خارج السلطات يتسلطون عليّ فأتركه الى أي مكان آخر بلا سلطة.

وطني هذا أراه من السيارة بحراً كامد الزرقة وجبلاً كامد الخضرة، تماماً عند الغروب. هل السيارة تمضي أم المتوازيان، البحر والجبل، يعرضان أسرارهما في أول الليل؟ أرى الأسرار ولا يراها الآخرون. والسرّ مشهدٌ لا خبر، فرحٌ لا فضيحة، علاقةٌ لا انفصال.

أترك وطني حاملاً معي تلك الأسرار لأستطيع العودة.

الثلثاء 6/11/2007 : مفاضلة

يمكن تعدادهم بسهولة، هم عشرة أو عشرون أو ثلاثون على الأكثر، نرى بعضهم على الطرقات في مواكب محروسة، والآخرون على شاشة التلفزيون.

هؤلاء.

يقررون مصائرنا. زعماء في الداخل والخارج، يريدوننا أحياء لحفظ صورتنا كما رسمتها رغباتهم.

صورة لبنان، صورتنا، رسمها عشرة أو عشرون أو أكثر قليلاً، واختلفوا فلم تكتمل، أو أن خطوطها وألوانها تداخلت ونخاف أن يصل الأمر الى طلب محوها لتُرسم من جديد.

نستدعي محبين وكارهين، وهي مشكلتنا لا مشكلتهم. نحصد الثمار المرة لحروب 1975 – 1990، وامتنعنا عن النقد الذاتي بين عامي 1991 و2005 في المستويات التربوية والاقتصادية والاجتماعية والفنية والفكرية والسياسية والقانونية والسلوكية، نقد ذاتي يستنهض قوى المجتمع الحية ويقدم نماذج إيجابية محفزة.

تنهض الأمم بعد الحروب فيما نحن نكرر ببلاهة الكلام التعبوي إياه السطحي أو التآمري لا فرق الذي قيل في العام 1975. ومن هذا الكلام تعابير مثل السيادة المطلقة والمقاومة المطلقة، وكلاهما خطر، لا يشبه لبنان واللبنانيين بل يشبه الحرب.

والحرب كانت دائماً نيران مقدسات نضفيها على كلام تعبوي.

لا وجود لسيادة مطلقة في عالمنا اليوم. ولا مجال لمقاومة مطلقة إلا بتحطيم وطننا فيما نتهيأ لردع العدو. المقاومة وسيلة والوطن بما هو أرض وإنسان هدف. الوطن أهم من المقاومة، إذا عقدت المفاضلة، ويبدو أن البعض يدعونا الى هذه المفاضلة.

الخميس 8/11/2007 : توبة الشعراء

حاييم غوري شاعر إسرائيلي عجوز حارب الفلسطينيين قبل سنة 1948 وبعدها، لكنه في هذه الأيام بدأ يعي كلام الأرض التي يعيش عليها، إذ تروي الأرض تاريخ أهلها بلا رقابة، ومن وعيه كلامها هذا المقطع من قصيدة له نقلها عن العبرية سلمان مصالحة، وتصفحتها حيث نشرت في مجلة”مشارف”الحيفاوية الفصلية – شتاء 2006 :

“أنا مليءٌ بالموتى.

أنا مليءٌ بموتى محفوظين داخلي.

أنا مليءٌ بأسماء منقوشة في الحجر

وأَيْمانٍ وهمساتٍ ونُذور.

أنا مليءٌ بآراء مُسبقة

ب لا خيارات وأبطال،

وهم صناديد كالأسود، كما يُقال،

وهم أخفُّ من نُسور.

أنا أقفُ كنشيدٍ وطنيّ،

حتى ينتهي.

أجلسُ، أُراقبُ نقطة في المكان.

مشبوهاً كما الباقين.

أنا مليءٌ بقرى مهجورة، حاجيات متروكة،

بنعالٍ فاغرة، مِزَق ألحفة صوفية، صُرر مثقوبة.

ببقايا تبن، أرسان ظلّت تنتظرُ حتى أعيت،

محاريث من خشب، مناجل، غرابيل، أرغفة جفّت. …

أنا مليءٌ بصمت الحيطان، نوافذ اللاضوء. بنحاسٍ وجِفان.

أرى أباريق فارغة، ظُلُمات الآبار.

أرى حطّات، مناديل، شالات وملاءات،

هنا طرحةٌ أخرى، هنا بُرقعٌ آخر.

ألتقي كلاباً مجدوعة الآذان، بلا أسماء، ظلّت تحرس،

خلخالاً ينتظر حتى اليوم كاحله”.

الشاعر المحارب أتى الى وطن الآخرين ليجعله وطنه الخاص، لكنه لم يستطع تفادي”خلخال ينتظر حتى اليوم كاحله”.

ويعترف حاييم غوري في راحة المحارب بآلام الذين اقتلعهم من أرضهم، طامحاً الى غفران يلمّ الجميع، القدماء والوافدين. والغفران، المشوب غالباً بالتنصل، رسالة معظم الأدباء الإسرائيليين في مخاطبتهم وجدانهم ووجدان الآخر.

ولكن، لا ندري ما رأي الشاعر العجوز بكتاب الضابط الإسرائيلي المتقاعد داني باز”لا نسيان ولا غفران: مطاردة آخر النازيين”دار غراسييه – باريس 2007 الذي نقلت وكالات الأنباء انه يروي في ما يشبه السيرة الذاتية انضواء الكاتب في مجموعة أميركية سرية اسمها”البومة”، أسرت في كندا في العام 1982 الدكتور اربرت هايم الذي تسميه”المجرم النازي”، ثم حاكمته وأعدمته في جزيرة سانتا كاتالينا قبالة ساحل كاليفورنيا. ولم يعلم احد بمقتل الرجل لأن الحكومة النمسوية أعلنت في تموز يوليو الماضي عن جائزة مقدارها 50 ألف يورو لمن يقدم معلومات عن هايم تساعد في تحديد مكانه واعتقاله.

لا غفران في هذا العالم، لذلك تواصل الحروب تناسلها الشيطاني ولا تستطيع ايقافه توبة الشعراء.

الجمعة 9/11/2007 : افتراق ثقافي

كتب الشاعر التشيلي بابلو نيرودا عن إسبانيا في حربها الأهلية:

“ستسألون لماذا لا يتغنى شعره

بالأحلام وورق الشجر

وبالبراكين الجبارة في موطنه؟

تعالوا إذاً انظروا الدم في الشوارع

تعالوا انظروا

الدم في الشوارع

تعالوا انظروا الدم

في الشوارع”.

وإذا كان نيرودا عبّر شعرياً عن المحنة الإسبانية في ثلاثينات القرن العشرين، فأين تعبير الشعراء اللبنانيين عما يحدث في بلدهم، على سبيل المثال حرب تموز يوليو 2006 والقتل والدمار بفعل آلة الحرب الإسرائيلية؟

السؤال ليس للوم بل لتقرير حال، إذ تبدو مأساة ضحايا العدوان كأنها في كوكب آخر، هو ثقافة”حزب الله”المفارقة للثقافة اللبنانية.

المفارقة تطرح مشكلة العلاقة بين الثقافة والمقاومة، خصوصاً في الصراع العربي ? الإسرائيلي المديد، فثقافة الناس المدنيين تنزع الى الانفتاح على أفكار الآخرين وفنونهم وطرائق عيشهم ونظراتهم إلى العالم، في حين تقوم ثقافة المقاومة على أيديولوجيا مقدسة أو شبه مقدسة تبدو ضرورية لتعبئة المقاتلين والمجتمع الذي يحتضنهم ويرعاهم.

وإذا كان الصراع مع إسرائيل مديداً، فالافتراق الثقافي سيحدث بين أهل المقاومة وشركائهم في الوطن، وأياً كان حجم التضامن، فالأمور آيلة الى اختلاف في الأمزجة وأولويات الأفكار والأحلام.

ويتطلب الأمر شيزوفرينيا ليستطيع اللبناني الجمع بين ثقافة المقاومة وثقافة الحياة المدنية. قد يتحمل هذه الشيزوفيرينيا سنة أو سنوات معدودات لكنه لا يستطيع ذلك طويلاً، فيتخلى عن ازدواجية شخصيته لينحاز الى أحد فريقين يتصارعان في الوطن نفسه: أهل المقاومة وأهل الحياة المدنية، ويصبح الصراع مع إسرائيل بالتالي في الدرجة الدنيا من الاهتمام.

وفي العودة الى نيرودا، ليس من شاعر لبناني سار على دربه، ينظر الى الدم في القرى اللبنانية والى الأطفال الموتى مثل أيقونات أسطورية في مجزرة قانا وغيرها.

لا كتابات شعرية لبنانية بارزة تعبر عن فظاعات العدوان الإسرائيلي. ولا نلوم الشعراء، إنما نشير الى حال الافتراق الثقافي في لبنان، خصوصاً أن للمقاومة أيديولوجياها الدينية، ولها أسبابها في ذلك، لكنها تتعارض بالضرورة مع الحداثة بما هي جوهر الوجود اللبناني الديموقراطي المتعدد المنفتح.

لن يقول شاعر لبناني قول نيرودا، وليس امتناعه هذا خيانة أو بلادة في الإحساس، إنه علامة اختلاف ثقافي لا يتنبه له أهل المنابر الكثر حين يكررون كلاماً واثقاً حتى الضجر.

السبت 27/10/2007 : أصوات تاريخية

سمعت سياسياً لبنانياً يتحدث الى الناس كأنه يتكلم من كتاب تاريخ، وليس السياسيون الآخرون بمختلفين.

يعتقدون ان خطابهم صالح الآن وفي المستقبل، لذلك يشبه عملهم السياسي اسطورة مقدسة، ويريد كل منهم لأنصاره ان يصدقوا القداسة هذه ويعيشوا في ظلها، وأن يدافعوا عنها في وجه قداسات الآخرين.

ولا أحد من السياسيين اللبنانيين في وقتنا الحاضر يريد أن يعرف ان القرار السياسي، بل الرأي السياسي، هو ابن اللحظة وتشابكاتها وتوازناتها والتعبير عن المصلحة خلالها، أو انه في أحسن الحالات ابن مرحلة زمنية محددة، مهما كانت ذرائع تمديدها باسم ايديولوجيا مزعومة أو بذريعة التاريخ الآتي.

الاثنين 29/10/2007 : ألقوا أسلحتكم

كتب ستيفان تسفايغ في مذكراته”عالم الأمس”ترجمة عارف حديفة ? منشورات دار المدى:”التقيت في فيينا شتاء 1914 بيرثا فون ستاتنر سليلة احدى العائلات الارستقراطية، وهي عاشت في شبابها قسوة حرب 1880 قرب مقر أسرتها في بوهيميا، لذلك لم تر إلا مهمة واحدة لها في الحياة، ان تمنع نشوب حرب ثانية، او أي حرب على الاطلاق. كتبت بيرثا رواية”القوا اسلحتكم”التي حققت رواجاً، ونظمت لقاءات من أجل السلام، وكان انتصار حياتها أنها أيقظت ضمير ألفرد نوبل، مخترع الديناميت، للتعويض عما سببه اختراعه من شرور، فأنشأ جائزة نوبل للسلام والتفاهم بين الأمم. واجهتني بيرثا بانفعال شديد، وصاحت في الشارع مع أنها عادة هادئة ومتروية:”لا فكرة عند الناس عما يجري! إن الحرب مقبلة، وقد أخفوا نذرها عنا مرة أخرى. لِمَ لا تفعلون شيئاً، أنتم الشباب؟”.

وفي فرنسا ذكرتني حادثة شخصية بنبوءة السيدة العجوز. كانت الحادثة تافهة، لكنها شديدة الوقع في نفسي. في ربيع 1914، قصدت وأحد أصدقائي مدينة تورين لقضاء بضعة أيام، وزيارة قبر ليوناردو دافنشي. تجولنا عند ضفة نهر لوار المشمسة اللطيفة ساعات، وفي الليل كنا متعبين قليلاً، لذلك عزمنا على الذهاب الى صالة للسينما في مدينة تور النائمة، بعد أن زرنا المكان الذي ولد فيه بلزاك.

كانت الصالة في ضاحية صغيرة مختلفة عن مباني المعدن والزجاج الحديثة، ضعيفة التجهيز، ممتلئة جمهوراً متواضعاً من العمال والجنود والنساء.

ظهرت على الشاشة أولاً”أخبار العالم”: سباق زوارق في انكلترا، فعلا اللغط والضحك. ثم ظهر العرض العسكري الفرنسي فلم يثر إلا اهتماماً قليلاً. وكان المشهد الثالث:”القيصر ويلهم يزور الامبراطور فرانسيس جوزيف في فيينا”، وفجأة رأيت على الشاشة المنصة المألوفة للمحطة الغربية القبيحة في فيينا، مع رجلي شرطة ينتظران وصول القطار، ثم إشارة ظهر بعدها الامبراطور المسنّ سائراً بين حرس الشرف، ولما ظهر الامبراطور على الشاشة منحني القامة قليلاً ومرتعشاً بعض الارتعاش، أخذ جمهور تور يضحك على العجوز ذي السوالف الشائبة. ثم ظهرت من القطار عربته الأولى فالثانية فالثالثة، وفُتح باب المقصورة، وترجل وليام الثاني في زي جنرال نمسوي، وشارباه معقوفان الى أعلى. وفي اللحظة التي ظهر فيها علا صفير عفوي شديد، وبدأ خبط الأرض بالأقدام في القاعة المظلمة. صرخوا كلهم وصفروا، نساء ورجالاً، كأنهم تلقوا إهانة شخصية.

أهل تور الطيبين الذين لم يعرفوا عن العالم والسياسة أكثر مما قرأوا في صحفهم المحلية، جُنَّ جنونهم الى حين. أخافني ذلك، إذ أحسست بالتأثير العميق لسموم الدعاية في السنوات الأخيرة. فحتى في مدينة إقليمية صغيرة، كان المواطنون والجنود البسطاء محرّضين ضد القيصر، وضد ألمانيا، الى حد استطاعت معه صورة على الشاشة ان تحدث مثل هذه التظاهرة”.

الاربعاء 31/10/2007: لوم الذئب

طلع بيت من شعر عمر أبو ريشة في سياق كلام صديق.

الشاعر السفير، والكلاسيكي المنبري البارز، كان يشدد على ضرورة وجود”بيت القصيد”في الشعر، ويعني بذلك جوهر القصيدة الذي يبقى ويلمع في ذاكرة المستمع او القارئ كلما حانت مناسبة ملائمة.

ومن”بيت قصيد”عمر أبو ريشة ذكر صديقي:

لا يلام الذئب في عدوانه

إن يكُ الراعي عدوّ الغنم

الخميس 1/11/2007: الرهان

يطلق المركب أصوات خشبه ومعادنه كلما هاج البحر، المركب غير الصالح للاستخدام مخصص لمهمة غير شرعية هي تهريب شبان من جنوب البحر المتوسط الى شماله.

وحين يغيب البرّ الشمال أفريقي عن النظر يصير البحر الجهات كلها، والمركب ملاذ وحيد. وتنتظر عينا الشاب المهاجر رؤية البر الأوروبي، ويمضي خياله في تصور عمق البحر المخيف حيث تسرح، ربما، أسماك القرش.

من حوله رفاق رحلة لا يعرفهم، أتوا من بلاد متعددة يستبدلون الانتحار الصافي بسفر يحتمل الانتحار، رفاق لا يأبهون بزادهم القليل لأن أعصابهم مشدودة الى الوقت، الساعات الفاصلة بين الجنوب والشمال، وكيف ستنقضي بسلام حتى الوصول الى الهدف، وكيف يتحمل المركب المتهالك مشاق الرحلة، وهل يرعى البحر، هل ترعى الرياح، مسافرين يتجهون نحو حياة حقيقية رأوها في التلفزيون وسمعوا عنها من أصدقاء نجحوا في العبور ثم عادوا زائرين ممتلئين بالثقة؟

لا مجال لخيال الشاب، انه أسير الوقت الفاصل بين مكان ومكان، وبعدما كان يسمع صوت عقارب الساعة ها هو يسمع صوت الوقت في أنين المركب تحت ضربات المياه الهائجة. المركب يئن ويد المهاجر على قلبه، والرفاق منكفئون الى أفكارهم وأوهامهم.

انها لعبة الحظ لمهاجرين يراهنون على مركب عجوز.

… وتنقل وكالات الأنباء أخباراً عن حطام مركب وجثث وناجين سيعادون من حيث أتوا.

وفي حاشية متكررة على أخبار المهاجرين الغرقى المتكررة، ان أوروبا تحاول نقل قيمها”الاستعمارية”الينا، وأننا”نمانع”في وجه هذه القيم، حتى نأكل بعضنا بعضاً، ويلجأ ابناؤنا الى الرهان على مركب متهالك يوصلهم الى”مهد الاستعمار”او الى لجّة المياه، ويرتاحون في الحالين أهو رهان حقاً؟.

الجمعة 2/11/2007: المدن الصغيرة

معظم دراسات التاريخ الاجتماعي والأدبيات السردية في العالم العربي يهتم بالمدينة أو بالريف، القسمة ذات المواصفات الجاهزة. لكن المدن العربية ذات الاجتماع السلطاني تتشابه، خصوصاً على صعيد نخب تتصاهر بقدر ما تتبادل الأفكار، ولا علاقة لهذه المدن بالريف سوى استيرادها منه المواد الغذائية والبشر، أما الريف النمطي فهو الزراعة والفكر التقليدي والتبعية للمدينة في أوقات الشدائد، حين يشكل الريفيون عماد جيش يدافع عن الأمة.

وتبدو نادرة الدراسات أو الأدبيات السردية التي تعنى بالمدن الصغيرة أو القرى الكبيرة، ومن هذا القليل دراسة فواز طرابلسي”يا قمر مشغرة: المحسوبية والاقتصاد والتوازن الطائفي”بيروت، منشورات دار رياض الريس – 2004، وكذلك الفصل الذي كتبه في”دراسات في التاريخ الاجتماعي لبلاد الشام – قراءات في السير والسير الذاتية”منشورات مؤسسة الدراسات الفلسطينية – بيروت 2007.

مشغرة مدينة صغيرة أو قرية كبيرة في منطقة البقاع الغربي اللبنانية، وفي الفصل قراءة في سيرة سليمان طرابلسي الذي شكل وأسرته جزيرة متفرنجة في مجتمع تقليدي. وتأتي الفرنجة هذه في سياق الحداثة المبكرة بما هي معرفة باللغات الأوروبية الرئيسة وانفتاح على ثقافتها التي وصلت الى الريف اللبناني الجبلي وفاضت الى البقاعين الأوسط والغربي، عبر البعثات التبشيرية المتنوعة والمتنازعة فرنسية – إنكليزية – أميركية – روسية – ألمانية وذلك قبل وصول الحداثة الى المدينة اللبنانية ? العثمانية المحافظة.

شيد صاحب السيرة قصراً من 18 غرفة، بتمويل من أبنائه المهاجرين، إذ كان للزعامة الريفية ثمن يدفعه الوجيه أو الزعيم بواسطة أبناء وأحياناً أقارب مقيمين في بلاد بعيدة هنا الولايات المتحدة لمجرد المحافظة على وجاهة العائلة. وعدا الثمن المادي كان الوجيه يحرص على علاقات مع ذوي النفوذ ليستطيع خدمة قاعدته الشعبية، لذلك نجد سليمان طرابلسي الكاثوليكي من حيث العصبية يمتاز بثقافة بروتستانتية ويعتنق أيديولوجيا ماسونية، لأن ثقافته وأيديولوجيته هاتين تمكنانه من الاتصال بذوي النفوذ الذين كان معظمهم في مطالع القرن العشرين انكلوفونيين ماسونيين، فيحقق بذلك دعماً لوجاهته، وإن كان يخفي ماسونيته لئلا ينفض من حوله الناس ورجال الدين.

في كل قرية كبيرة أو مدينة صغيرة في عالمنا العربي سليمان طرابلسي الخاص بها، وپ”شعبه”من المزارعين المتطلعين الى خدماته لتطوير أحوالهم وأحوال أبنائهم، وذلك بعدما امتد نفوذ الدولة الحديثة وخيراتها الى الأطراف، أي ان المدينة السلطانية تبدل حالها فأصبحت عاصمة لدولة حديثة يشمل نفوذها ومسؤوليتها المدن الصغيرة والريف.

لم نقرأ نصاً سردياً عن المدن الطرفية الصغيرة سوى روايات المصري محمد عبدالحليم عبدالله الرومنطيقية الساذجة، وبعض الروايات – الذكريات لكتّاب من المملكة المغربية، أبرزهم ادمون عمران المليح.

الاثنين 22/10/2007: العراقي

ما بعد الرها ونصيبين الى جهة الشرق، تلك السفوح تمتد وتؤدي صعوداً الى جبال اختبأ فيها فلاسفة ومترجمون وقطّاع طرق وباعة أوهام.

هناك جذور سركون بولص، الشاعر العراقي ? الأميركي الذي يكتب بالعربية، فاجأت قصائده الشعراء قبل القراء، لكن القصائد بقي معظمها على الورق، على هذه الطاولة أو تحت تلك الوسادة، ولكن ليس في غرفة واحدة في بلد واحد، أوراق مبعثرة في مدن متباعدة شرقية وأوروبية وأميركية. وبعض القصائد المبعثرة التم شمله في كتب قليلة.

التقينا مرات قليلة عابرة، كان يشبه الفتى الروسي الأبيض ابن الجيران في عين المريسة القديمة، والذي أدخلني بيته فرأيت كيف يجمع المهجرون وطناً كبيراً في غرفة أو غرفتين، وكيف تتواصل أرواحهم مع الجذور البعيدة بواسطة الموسيقى والأشغال اليدوية – الأرتيزانا.

الشاعر العراقي يشبه الفتى الروسي الأبيض، لكن وطنه ليس مختصراً في غرفة أو غرفتين، إنه مبعثر مثل قصائده في أمكنة متباعدة، وحتى موته حلّ في منزلة بين منزلتي الوطن ودار الهجرة.

“ومن غير أن نولد، كيف نحيا مع الريح

دون كفالات: يد النوم مدلاّة على مهد الوليد حتى

تأتي الظلال”.

وفي حاشية على سركون بولص لا بد من ملاحظة أن العراقيين الشعراء، وربما غير الشعراء أيضاً، يتخيلون أنهم أفراد في المنافي، لكنهم يهربون دائماً من الفردية الى صداقة تخالطها الاهتمامات السياسية لا الأدبية في معظم الأحيان، يختلفون حتى في الصراخ وربما الاشتباك بالأيدي، لكنهم يبقون أصدقاء.

إنها الصداقة خشبة خلاصهم في عيش الفردية التي تشبه عزلة قاتلة ولا تشبه أبداً وقفة فرد وحيد في وجه الجموع، في وجه العالم.

ربما، لهذا السبب، تبدو قصائد المنفى العراقية من حيث هدأة لغتها ونسجها المتقن المتيقن الذي يتطلب سكناً للروح وقدراً من الاستقرار، قصائد إقامة، أعني الإقامة في الصداقة.

الثلثاء 23/10/2007: على رؤوس الأصابع

عاش أهلها في القرون الوسطى ثم طردتهم الى بلاد أخرى بعيدة، من يعرف في هذا الشرق أسلافه، الكل يروي خيالاته، والتاريخ افتراضات قدسية مفتعلة.

أتى بعد ظهر أمس ولم يسخن مكانه ثم أطل من نافذة البيت صارخاً بالمارة: ارحلوا يا غرباء.

كلّ يبدأ من صفر الآخرين ليسجل بداياته وينعتها بالخالدة.

بلاد عاش أهلها في القرون الوسطى، ثم رحلوا، لم يرحلوا جميعاً، بقي أفراد قلة يتغلغلون في شوارع المدن في منحنيات المزارع، أفراد انتبهوا فجأة الى أنهم شعراء.

كيف أن الشاعر لا يرحل، يكتب عن البعيد من دون أن يبتعد، الكتابة فعل مواز، أو أنها فعل بديل، أو أنها عملية تحفيز.

كأن القصيدة الوقفة الأخيرة قبل القفز، الوقفة على رؤوس الأصابع.

الأربعاء 24/10/2007: منازل

ردد بعض الدارسين العرب ولم يؤكدوا انهم زاروا البيت الذي سكنه المتنبي في حلب حين كان يرافق سيف الدولة الحمداني ويمدحه، وجال آخرون في وادي حنيفة قرب العاصمة السعودية الرياض وتلمسوا الأماكن التي عاش فيها جرير، ونظروا من خلال بعض قصائده الى طبيعة المكان وترابه وصخره ونباته.

ويعتني الإنكليز ومن بعدهم أهل أوروبا وأميركا الشمالية بالأماكن حيث ولد أو عاش أدباء ومفكرون وفنانون وعلماء وسياسيون، وهم يثبتون على المباني أسماء الأعلام الذين عاشوا فيها مع تأريخ دقيق لفترة السكن. وفي هذه الإشارات يتعين الأعلام كبشر ولا يبقون مجرد ظلال ضائعة، وهذا يقرّبهم من الناس ويجدد حضورهم في جماعة تحس أنها تبدأ حياتها من ماض ملموس وليس من أوهام.

ولمكان العيش دلالة في الدراسات الأدبية والفنية والاجتماعية، إذ لا يمكن فصل النص عن صاحبه بإطلاق، هذا الفصل تعتمده مدرسة في النقد ذات نطاق محدود.

في كتاب شريفة زهور”أسرار أسمهان: المرأة والحرب والغناء”نقرأ هذا المقطع عن أماكن عيش الفنانة ترجمة نرمين نزار لفصل من الكتاب في مجلة”الكتب/ وجهات نظر”عدد تموز/ يوليو 2007:

“زودني الكثير من الكتّاب وأفراد العائلة بمعلومات عن الأماكن وبصور ذهنية ولحظات لا تستطيع الكاميرا استعادتها. رأيت المربع السكني الذي عاشت فيه العائلة في فترات فقرها في القاهرة، كما رأيت الحوائط التي غطاها الغبار الآن في غاردن سيتي بشرفاتها المبنية على طراز الأرت ديكو الذي ذاع وانتشر في الثلث الثاني من القرن العشرين. أستطيع أن أرى أسمهان وهي تبكي في غروب جميل كما يتذكر التابعي بجوار النيل، أو رؤيتها وهي تخرج مصحفها الصغير من حقيبتها. لم يكن من الصعب تخيل أسمهان وهي تنصت بتركيز للموسيقى أو تمشي الى بار فندق الكونتيننتال أو تجلس على كرسي من البامبو في شرفة فندق شبرد القديم احترق في حريق القاهرة قبل ثورة 1952 بفترة قصيرة.

وعلى بعد أميال في جنوب سورية، صورتُ المنزل الأصفر الذي بناه حسن لأسمهان في السويداء بشجر أرزه. ومع أنه يتبع الجيش السوري في الوقت الحالي، إلا انني حاولت أن أتخيل القوات الخاصة بزيهم الرسمي وهم يحيطون بأسمهان أمام المبنى. وجدت”القلعة”التي بناها والد زوجها إسماعيل الأطرش فوق قرية العرة والتي تقع أمامها ساحة للتجمعات العامة. رأيت غرفتها داخل السياج الحجري وفوق الباحة القديمة والمضيفة القديمة بتكاياتها، الشعارات المكتوبة على الجدران الحجرية القديمة، كما رأيت بيت ومضيفة فرع آل الأطرش في السويداء. حملقت طويلاً في جانب الجبل والطرق الصخرية حيث كانت تعدو بلا خوف على حصانها، وشوارع سوق الحميدية الشهير في دمشق حيث كانت تشتري الحرير والتسجيلات.

حاولت أن أدخل الفندق الدمشقي الذي كانت تفضله حيث يقال إنها أعطت نفسها جرعات زائدة من دوائها أورينت بالاس Orient Palace فاستجوبني المسؤولون السوريون والإيرانيون الذين يديرونه لخدمة السياح الإيرانيين، ثم تبعتها مرة أخرى الى مصر. تعقبت مسارها الى القدس، وعبرت ما كان يعرف بمملكة شرق الأردن حتى مكان موعدها مع أخيها غير الشقيق طلال على الحدود السورية”.

الخميس 25/10/2007 : لا حكمة ولا رعونة

هذا وطني. يعاد تكوينه مرة كل عشرين سنة. مرة كل عشر سنوات. مرة كل خمس. وطن في طور التكوين، وأنا المواطن لن أستطيع إعادة تكوين نفسي لأنسجم مع التوازنات الجديدة للقوى الإقليمية والدولية. كيف أحب ثم أكره تبعاً لتوازن الآخرين بعيداً من القلب والوجدان. كيف أحتفظ بكوني إنساناً فرداً يراكم تجربته حتى آخر العمر. كيف أتصرف كطفل وأنا في الخمسين، كشيخ وأنا في العشرين.

لا حكمة لي ولا رعونة، هكذا يريدونني صدى لإعادة تكوين لا مستقر لها.