السبت 27/10/2007 : أصوات تاريخية

سمعت سياسياً لبنانياً يتحدث الى الناس كأنه يتكلم من كتاب تاريخ، وليس السياسيون الآخرون بمختلفين.

يعتقدون ان خطابهم صالح الآن وفي المستقبل، لذلك يشبه عملهم السياسي اسطورة مقدسة، ويريد كل منهم لأنصاره ان يصدقوا القداسة هذه ويعيشوا في ظلها، وأن يدافعوا عنها في وجه قداسات الآخرين.

ولا أحد من السياسيين اللبنانيين في وقتنا الحاضر يريد أن يعرف ان القرار السياسي، بل الرأي السياسي، هو ابن اللحظة وتشابكاتها وتوازناتها والتعبير عن المصلحة خلالها، أو انه في أحسن الحالات ابن مرحلة زمنية محددة، مهما كانت ذرائع تمديدها باسم ايديولوجيا مزعومة أو بذريعة التاريخ الآتي.

الاثنين 29/10/2007 : ألقوا أسلحتكم

كتب ستيفان تسفايغ في مذكراته”عالم الأمس”ترجمة عارف حديفة ? منشورات دار المدى:”التقيت في فيينا شتاء 1914 بيرثا فون ستاتنر سليلة احدى العائلات الارستقراطية، وهي عاشت في شبابها قسوة حرب 1880 قرب مقر أسرتها في بوهيميا، لذلك لم تر إلا مهمة واحدة لها في الحياة، ان تمنع نشوب حرب ثانية، او أي حرب على الاطلاق. كتبت بيرثا رواية”القوا اسلحتكم”التي حققت رواجاً، ونظمت لقاءات من أجل السلام، وكان انتصار حياتها أنها أيقظت ضمير ألفرد نوبل، مخترع الديناميت، للتعويض عما سببه اختراعه من شرور، فأنشأ جائزة نوبل للسلام والتفاهم بين الأمم. واجهتني بيرثا بانفعال شديد، وصاحت في الشارع مع أنها عادة هادئة ومتروية:”لا فكرة عند الناس عما يجري! إن الحرب مقبلة، وقد أخفوا نذرها عنا مرة أخرى. لِمَ لا تفعلون شيئاً، أنتم الشباب؟”.

وفي فرنسا ذكرتني حادثة شخصية بنبوءة السيدة العجوز. كانت الحادثة تافهة، لكنها شديدة الوقع في نفسي. في ربيع 1914، قصدت وأحد أصدقائي مدينة تورين لقضاء بضعة أيام، وزيارة قبر ليوناردو دافنشي. تجولنا عند ضفة نهر لوار المشمسة اللطيفة ساعات، وفي الليل كنا متعبين قليلاً، لذلك عزمنا على الذهاب الى صالة للسينما في مدينة تور النائمة، بعد أن زرنا المكان الذي ولد فيه بلزاك.

كانت الصالة في ضاحية صغيرة مختلفة عن مباني المعدن والزجاج الحديثة، ضعيفة التجهيز، ممتلئة جمهوراً متواضعاً من العمال والجنود والنساء.

ظهرت على الشاشة أولاً”أخبار العالم”: سباق زوارق في انكلترا، فعلا اللغط والضحك. ثم ظهر العرض العسكري الفرنسي فلم يثر إلا اهتماماً قليلاً. وكان المشهد الثالث:”القيصر ويلهم يزور الامبراطور فرانسيس جوزيف في فيينا”، وفجأة رأيت على الشاشة المنصة المألوفة للمحطة الغربية القبيحة في فيينا، مع رجلي شرطة ينتظران وصول القطار، ثم إشارة ظهر بعدها الامبراطور المسنّ سائراً بين حرس الشرف، ولما ظهر الامبراطور على الشاشة منحني القامة قليلاً ومرتعشاً بعض الارتعاش، أخذ جمهور تور يضحك على العجوز ذي السوالف الشائبة. ثم ظهرت من القطار عربته الأولى فالثانية فالثالثة، وفُتح باب المقصورة، وترجل وليام الثاني في زي جنرال نمسوي، وشارباه معقوفان الى أعلى. وفي اللحظة التي ظهر فيها علا صفير عفوي شديد، وبدأ خبط الأرض بالأقدام في القاعة المظلمة. صرخوا كلهم وصفروا، نساء ورجالاً، كأنهم تلقوا إهانة شخصية.

أهل تور الطيبين الذين لم يعرفوا عن العالم والسياسة أكثر مما قرأوا في صحفهم المحلية، جُنَّ جنونهم الى حين. أخافني ذلك، إذ أحسست بالتأثير العميق لسموم الدعاية في السنوات الأخيرة. فحتى في مدينة إقليمية صغيرة، كان المواطنون والجنود البسطاء محرّضين ضد القيصر، وضد ألمانيا، الى حد استطاعت معه صورة على الشاشة ان تحدث مثل هذه التظاهرة”.

الاربعاء 31/10/2007: لوم الذئب

طلع بيت من شعر عمر أبو ريشة في سياق كلام صديق.

الشاعر السفير، والكلاسيكي المنبري البارز، كان يشدد على ضرورة وجود”بيت القصيد”في الشعر، ويعني بذلك جوهر القصيدة الذي يبقى ويلمع في ذاكرة المستمع او القارئ كلما حانت مناسبة ملائمة.

ومن”بيت قصيد”عمر أبو ريشة ذكر صديقي:

لا يلام الذئب في عدوانه

إن يكُ الراعي عدوّ الغنم

الخميس 1/11/2007: الرهان

يطلق المركب أصوات خشبه ومعادنه كلما هاج البحر، المركب غير الصالح للاستخدام مخصص لمهمة غير شرعية هي تهريب شبان من جنوب البحر المتوسط الى شماله.

وحين يغيب البرّ الشمال أفريقي عن النظر يصير البحر الجهات كلها، والمركب ملاذ وحيد. وتنتظر عينا الشاب المهاجر رؤية البر الأوروبي، ويمضي خياله في تصور عمق البحر المخيف حيث تسرح، ربما، أسماك القرش.

من حوله رفاق رحلة لا يعرفهم، أتوا من بلاد متعددة يستبدلون الانتحار الصافي بسفر يحتمل الانتحار، رفاق لا يأبهون بزادهم القليل لأن أعصابهم مشدودة الى الوقت، الساعات الفاصلة بين الجنوب والشمال، وكيف ستنقضي بسلام حتى الوصول الى الهدف، وكيف يتحمل المركب المتهالك مشاق الرحلة، وهل يرعى البحر، هل ترعى الرياح، مسافرين يتجهون نحو حياة حقيقية رأوها في التلفزيون وسمعوا عنها من أصدقاء نجحوا في العبور ثم عادوا زائرين ممتلئين بالثقة؟

لا مجال لخيال الشاب، انه أسير الوقت الفاصل بين مكان ومكان، وبعدما كان يسمع صوت عقارب الساعة ها هو يسمع صوت الوقت في أنين المركب تحت ضربات المياه الهائجة. المركب يئن ويد المهاجر على قلبه، والرفاق منكفئون الى أفكارهم وأوهامهم.

انها لعبة الحظ لمهاجرين يراهنون على مركب عجوز.

… وتنقل وكالات الأنباء أخباراً عن حطام مركب وجثث وناجين سيعادون من حيث أتوا.

وفي حاشية متكررة على أخبار المهاجرين الغرقى المتكررة، ان أوروبا تحاول نقل قيمها”الاستعمارية”الينا، وأننا”نمانع”في وجه هذه القيم، حتى نأكل بعضنا بعضاً، ويلجأ ابناؤنا الى الرهان على مركب متهالك يوصلهم الى”مهد الاستعمار”او الى لجّة المياه، ويرتاحون في الحالين أهو رهان حقاً؟.

الجمعة 2/11/2007: المدن الصغيرة

معظم دراسات التاريخ الاجتماعي والأدبيات السردية في العالم العربي يهتم بالمدينة أو بالريف، القسمة ذات المواصفات الجاهزة. لكن المدن العربية ذات الاجتماع السلطاني تتشابه، خصوصاً على صعيد نخب تتصاهر بقدر ما تتبادل الأفكار، ولا علاقة لهذه المدن بالريف سوى استيرادها منه المواد الغذائية والبشر، أما الريف النمطي فهو الزراعة والفكر التقليدي والتبعية للمدينة في أوقات الشدائد، حين يشكل الريفيون عماد جيش يدافع عن الأمة.

وتبدو نادرة الدراسات أو الأدبيات السردية التي تعنى بالمدن الصغيرة أو القرى الكبيرة، ومن هذا القليل دراسة فواز طرابلسي”يا قمر مشغرة: المحسوبية والاقتصاد والتوازن الطائفي”بيروت، منشورات دار رياض الريس – 2004، وكذلك الفصل الذي كتبه في”دراسات في التاريخ الاجتماعي لبلاد الشام – قراءات في السير والسير الذاتية”منشورات مؤسسة الدراسات الفلسطينية – بيروت 2007.

مشغرة مدينة صغيرة أو قرية كبيرة في منطقة البقاع الغربي اللبنانية، وفي الفصل قراءة في سيرة سليمان طرابلسي الذي شكل وأسرته جزيرة متفرنجة في مجتمع تقليدي. وتأتي الفرنجة هذه في سياق الحداثة المبكرة بما هي معرفة باللغات الأوروبية الرئيسة وانفتاح على ثقافتها التي وصلت الى الريف اللبناني الجبلي وفاضت الى البقاعين الأوسط والغربي، عبر البعثات التبشيرية المتنوعة والمتنازعة فرنسية – إنكليزية – أميركية – روسية – ألمانية وذلك قبل وصول الحداثة الى المدينة اللبنانية ? العثمانية المحافظة.

شيد صاحب السيرة قصراً من 18 غرفة، بتمويل من أبنائه المهاجرين، إذ كان للزعامة الريفية ثمن يدفعه الوجيه أو الزعيم بواسطة أبناء وأحياناً أقارب مقيمين في بلاد بعيدة هنا الولايات المتحدة لمجرد المحافظة على وجاهة العائلة. وعدا الثمن المادي كان الوجيه يحرص على علاقات مع ذوي النفوذ ليستطيع خدمة قاعدته الشعبية، لذلك نجد سليمان طرابلسي الكاثوليكي من حيث العصبية يمتاز بثقافة بروتستانتية ويعتنق أيديولوجيا ماسونية، لأن ثقافته وأيديولوجيته هاتين تمكنانه من الاتصال بذوي النفوذ الذين كان معظمهم في مطالع القرن العشرين انكلوفونيين ماسونيين، فيحقق بذلك دعماً لوجاهته، وإن كان يخفي ماسونيته لئلا ينفض من حوله الناس ورجال الدين.

في كل قرية كبيرة أو مدينة صغيرة في عالمنا العربي سليمان طرابلسي الخاص بها، وپ”شعبه”من المزارعين المتطلعين الى خدماته لتطوير أحوالهم وأحوال أبنائهم، وذلك بعدما امتد نفوذ الدولة الحديثة وخيراتها الى الأطراف، أي ان المدينة السلطانية تبدل حالها فأصبحت عاصمة لدولة حديثة يشمل نفوذها ومسؤوليتها المدن الصغيرة والريف.

لم نقرأ نصاً سردياً عن المدن الطرفية الصغيرة سوى روايات المصري محمد عبدالحليم عبدالله الرومنطيقية الساذجة، وبعض الروايات – الذكريات لكتّاب من المملكة المغربية، أبرزهم ادمون عمران المليح.